دمار الشرق الأوسط … إسرائيل والأصوليات الدينية- بقلم: خالد الحروب
لولا إسرائيل والهوس الغربي في الحفاظ على أمنها لما تم تدمير العراق، ولما وقف الغرب المنافق موقف المتفرج من الثورة السورية في أوج شهورها السلمية الأولى. في كلتا الحالتين كان المحرك الرئيس للموقف الغربي هو «الحفاظ على أمن إسرائيل ومستقبلها». في الحرب الأولى ضد العراق في مطلع تسعينات القرن الماضي قدّم صدام حسين بسياساته الهوجاء وغزوه العراق كل المسوغات للولايات المتحدة والغرب لتحطيم العراق، القوة العربية الوحيدة المتبقية في المشرق. بعد تلك الحرب بأكثر من عقد جاءت الحرب الثانية عام 2003 لتنهي ما تبقى من العراق وتمحيه من خريطة أي تهديد مستقبلي لإسرائيل، ثم تقدمه ممزقاً وبرسم التقسيم هدية لإيران وشبقها في النفوذ الإقليمي. كل الدراسات الرصينة للحربين ودوافعهما والمناخات التي قادت إليهما تصل إلى محطة أساسية واحدة وهي الحفاظ على أمن إسرائيل. كل المسوغات والتبريرات التي ساقها صناع الحرب في الولايات المتحدة، ومن ضمنها تنحية ديكتاتورية صدام ونشر الديموقراطية، أو شن حرب وقائية ضد أسلحة الدمار الشامل العراقية (التي ثبت عدم وجودها) بان أنها تبريرات سخيفة لا أصل لها. لوبيات الضغط اليميني الصهيوني هي التي كانت ولا تزال في خلفية صناعة القرار الأميركي وتوجه أرياحه لخدمة الأشرعة الإسرائيلية على حساب كل الشرق الأوسط وشعوبه ودوله ومستقبلاته. لا يهم أن يُدمر العراق ويُسقط مليون قتيل ضحية للمغامرة الأميركية ويشرد الملايين، ويُعاد حاله إلى العصور الوسطى، ويتم تقسيمه. لا يهم كل ذلك ما دام الهدف هو إزالة «خطر محتمل» قد يبرز يوماً ما في وجه إسرائيل، الطفلة المدللة لسياسة غربية متوحشة. لا يهم إن تم تفجير الطائفيات الكامنة والإثنيات النائمة وبعثرة الحدود وتغذية الأصوليات الدينية وإطلاق غيلانها لتأكل أخضر الشعوب ويابس الأرض، ما دام الهدف واضحاً وهو محو أي دولة قد تفكر باستعداء إسرائيل.
ثورة سورية هي آخر التمظهرات الدموية لسياسة الغرب الإجرامية في المنطقة والتي تولي أمن إسرائيل الأولوية ما بعد المطلقة وتنحر على مذبح هذا «الأمن المقدس» شعوباً ودولاً وملايين من الأبرياء. ما كان لمسار الثورة السلمية التي انطلقت في قلب ازدهار الربيع العربي أن تطول زمنياً ولا أن تتعسكر عملياً لولا الخذلان الذي تعرضت له من الغرب أساساً وابتداءً، ثم من بقية العالم، بمسوغ الخشية على أمن إسرائيل وعدم ضمان نوع الحكم الذي قد يخلف نظام الأسد وسياسته المتوقعة تجاه إسرائيل. الولايات المتحدة وإسرائيل تعرفان بعمق كامل ماهية نظام الأسد وتطمئنان إلى معادلة وجوده السياسي الفعالة، لذلك لم يكن ثمة قبول بأدنى مقامرة للتضحية به. جوهر ومعادلة الوجود للنظام الأسدي، الوالد والابن، تقوم على تبني الصراخ البلاغي بخطاب المقاومة ومهاجمة إسرائيل بالكلمات ليل نهار، وفي ذات الوقت توفير الحد الأقصى من الأمن لها عملياً وارضياً. إنها المعادلة الناجعة على مدار أزيد من أربعة عقود والتي لا يمكن للنظام التفريط بأي من عنصريها لأنها تضمن له شرعية الوجود. ليس هناك شرعية انتخابية ولا تاريخية ولا وطنية تسند نظام الأسد سوى ادعاء «المقاومة»، لذلك فمعاداة إسرائيل لفظاً وبلاغة هي «استراتيجية وجود وبقاء» وليست ترفاً إعلامياً. من آن لآخر يستوجب شعار «المقاومة» دعم حركاتها في لبنان وفلسطين، اقل الأكلاف الممكنة، لتزويد النظام بما يحتاج إليه من عتاد شعاراتي لشحن «خطاب المقاومة والشرعية»، لكن ذلك كله يقع ضمن المقبول أميركياً وإسرائيلياً، وذلك فاتورة بسيطة تقدم من أجل الحفاظ على المعادلة السورية الأسدية الفعالة. ليست مفارقة بطبيعة الحال أن تعتاش إيران الخمينية على المعادلة «المقاومية» ذاتها، أي ضخ الشعارات الدائمة مقابل السكون والحفاظ على الأمر الواقع (مثلاً، ماذا فعلت إيران الخميني عملياً ضد إسرائيل خلال ما يقارب من أربعة عقود متواصلة من الهتاف «الموت لإسرائيل»؟ ولماذا لم تقم بمحوها كما توعد ولا يزال يتوعد قادتها؟).
اختلف الواقع والمصير المحزن للثورة السورية وارتباطها مع أمن إسرائيل مع واقع ومصائر الثورتين التونسية والمصرية. الأولى انطلقت وفرضت نفسها في بلد بعيد عن إسرائيل فلم يكن سؤال البديل خطراً وملحاً على إسرائيل فتركت الثورة تأخذ مسارها الطبيعي. بل وفرت ثورة تونس لواشنطن وأوباما، والغرب عموماً، فرصة لـ «التشبيح الإعلامي» والتشدق بمساندة الديموقراطية ومطالب الشعب بالحرية والكرامة، طالما لم تكن ثمة أكلاف حقيقية أو مغامراتية وراء تلك المساندة. الثانية، في مصر، فرضت نفسها بقوة الميادين والحضور الشعبي الهائل ولم تكن هناك قوة سياسية عاقلة حتى لو كانت الولايات المتحدة نفسها قادرة على المغامرة بالوقوف ضد الثورة وتخسر ما قد تخسر بعد انتصارها. والاهم من ذلك أن مصر كانت، ولا تزال، محكومة باتفاقات كامب ديفيد التي حيدت جيشها من الصراع الحقيقي مع إسرائيل، وهي الاتفاقات التي أعلن إسلاميو مصر الالتزام بها لطمأنة واشنطن وتل أبيب. صحيح أن وصول مرسي للحكم اقلق القادة الإسرائيليين لكن مصر كانت منهكة ومقيدة بعلمانييها وإسلامييها ولم تكن لتشكل تهديداً لإسرائيل في المستقبل المنظور. إذن، وبقليل من حس المغامرة الأميركي- الإسرائيلي أمكن قبول التغيير في مصر، ولو موقتاً. لكن عندما جاءت الثورة السورية كان «حس المغامرة» قد نفد بكليته ولم يعد بالإمكان القيام بذلك مرتين وفي بلدين مجاورين لإسرائيل. وإذا كانت كامب ديفيد دجنت الجبهة المصرية ووفرت فترة اختبارية كافية للإقدام على مغامرة المراهنة على صمود نظام كامب ديفيد حتى لو جاء الإسلاميون إلى الحكم، فإن بقاء تدجين الجبهة السورية لما بعد نظام الأسد لم يكن مضموناً بالدرجة ذاتها، ما فرض مقاربة أخرى. هنا التزمت المقاربة الأخرى، الإسرائيلية والأميركية، بالحفاظ على نظام الأسد لكن مع إنهاك سورية عسكرياً واقتصادياً ووضعها على شفير الانهيار، ضماناً لديمومة ضعفها إلى عقود تالية ولو غاب الأسد ونظامه عنها.
هكذا يكون ويبقى أمن إسرائيل العامل الخارجي الحقيقي المُتحكم في راهن ومستقبل وجيو استراتيجية الغرب تجاه المشرق. ما نراه من تصدع إقليمي هائل ومخيف ناتج عن ذلك العامل الذي تمتد جذوره ويوفر مسوغاً حقيقياً أو بلاغياً للدول والقوى المختلفة لإدارة سياساتها وتوجهاتها في المنطقة. وبمعنى أخلاقي ما، يبدو أمن إسرائيل وقد تحول إلى قدر «هولوكستي» محتوم يضرب أي بلد أو أي شعب من شعوب الشرق الأوسط إذا خان الحظ هذا الشعب وقادته الظروف ليتموضع وكأنه في نقطة تهديد محتمل لأمن إسرائيل.
أما العامل الداخلي الذي ظل يتحالف موضوعياً مع العامل الخارجي (أمن إسرائيل) فهو الأصوليات الدينية التي انبعثت أساساً وفي تمظهرها الأعرض نتيجة العامل الخارجي ذاته والهزائم المتوالية إزاءه. تطورت الإسلامويات المختلفة، الإخواني والعنيف والجهادي، والشيعي، والسلفي، والحسيني، ثم القاعدي والداعشي، على هوامش الهزيمة شبه المحتمة على يد إسرائيل المدعومة بتقنيات سلاح أُعد أساساً لهزيمة الاتحاد السوفياتي. الفلسطينيون والعرب لم يحاربوا إسرائيل بل كانوا يحاربون الولايات المتحدة، وما كان لنتائج تلك الحروب أن تكون إلا ما كانت عليه من هزائم. إسرائيل وأميركا وحروبهما في المنطقة هم الأب الشرعي الحقيقي لكل التطرف الأصولي الذي يضرب المنطقة الآن. كل التيارات الدينية التي وُجدت في المنطقة قبل قيام إسرائيل، كانت أقرب إلى الإصلاحية السلمية وكانت تغريها النماذج الليبرالية في الديموقراطية أو الاشتراكية في العدالة الاجتماعية.
روح الثورات الدستورية في إيران في مطلع القرن العشرين، وتحالفات شرائح علماء الدين مع أتاتورك، وكذا الإصلاحية في مصر وبلاد الشام، كانت تقدمية إلى حد كبير. الانعطافات المتطرفة التي ضربت تلك الروح جاءت مع قيام إسرائيل وخداع الغرب الكبير لأهل المنطقة، وهي الانعطافات المتطرفة ذاتها التي لحقت بالفكر القومي العربي والفكر الماركسي العربي أيضاً، وجذرها جميعاً يكمن في غطرسة السياسات الغربية وبطشها في المنطقة وفرضها إسرائيل على الجميع. انحدرت كل التيارات الدينية في المنطقة نحو التطرف وشكلت ثورة الخميني في أواخر سبعينات القرن الماضي الإعلان العارم لانطلاق الإسلاموية العنفية التي تعلن بالشعار موت أميركا وإسرائيل، وتقوم بالعمل على إماتة شعوبها وبلدانها. في الجانب المقابل، فاز كل التدين الكامن بتلاوينه المختلفة حتى غير المسيس منها وانتقل إلى قلب المشهد المتطرف وتسلح ثم «تقعّد» و «تدعّش». وتقلب ذلك الفوران على نيران الطائفية وانهمك في حرق ذاته، ناسياً ومتناسياً الأب الشرعي الذي أنتجه، وهو الأب الوحيد الذي يستحق القتل. والغريب الآن وبعد تلك السيرورة الطويلة التي انتجت كل أصوليات المنطقة، أن «مهمة التدمير الذاتي» أنيطت وتُركت لهذه الأصوليات في حروبها بعضها ضد بعض، بينما تنعم إسرائيل و «أمنها» بأمن لا ينعم بمثله أي بلد من بلدان الشرق الأوسط كلها!